الدراما تصنع تاريخاً جديداً فى القرن 21
يعتبر الفن بجميع أشكاله وأنواعه مرجعاً للتاريخ على مر العصور، فقد ظهرت علاماته على جدران المعابد والتماثيل المنحوتة التى تعبر عن عصور ما تمت على الأرض ، وتوثق مثل هذه العلامات الحكايات والمآثر التى حدثت قبلاً فى التاريخ على وجه الكرة الأرضية.
وقد كان ارتباط الفن بالتاريخ مقتصراً على الصور التشكيلية والتجريدية التى تركت على مدار عمر الكرة الأرضية، إلا أنه فى القرن العشرين قد اتخذ شكلاً جديداً فى تقديمة للتاريخ حينما تم انطلاق السينما فى الولايات الأمريكية الجديدة ، بعد أن كان الفن يعرض على المسارح وفى الساحات أصبح تراه وتسمعه خلف الشاشات.
اتخذ عرض التاريخ فى الدراما على الأحداث الحقيقية التى تمت فى التاريخ، وحينما كانت توجد مغالطات فى العمل التاريخي كان دائم الرجوع للمرجع التاريخى الذى اخذ منه العمل الدرامى.
ففى النصف الثانى من القرن العشرين قد رأينا حكاية المغول وهجومهم على الأراضى الإسلامية وتصدى سيف الدين قطز والمماليك ، وذلك براوية ابن كثير عن حياة الملك المظفر الذى ولد فى بلاد خوازم شاه حتى يعتلي عرش مصر وينشيء سلطنة قد ملكت الأراضى العربية لثلاثة قرون من الزمان، أخذ العمل شكلاً سينمائيا وتليفزيونيا على أن الأقرب إلى كتاب إبن كثير هى رواية المسلسل، لكن الجدير بالذكر أن هذه المسلسلات كانت تنوه على أن العمل أخذ من رواية ابن كثير "وإسلاماه" ، وهنا من حق المشاهد أن يقرأ الرواية الحقيقية وبهذا يعلم جيداً أن هناك أشياء قد تم التغاضى عنها فى العمل وهى من الأشياء المؤثرة كمثال قتل قطز للأمير أقطاى.
أما فى التاريخ الإسلامى فلم تحيد الأعمال الدرامية عن الروايات التاريخية التى أخذت منها، فى حين أن الأعمال الدرامية للتاريخ الغربى قد اتخذت من الأساطير والحكايات تاريخاً لها ، وعلى الرغم من ذلك فقد كانت أعمال توثيق الحروب الأمريكية واتحادها قد أخذت الطابع الجادى فى وصف الأحداث، وذلك بإشارتهم أن العمل حدث بالفعل من التاريخ.
قد كان ذلك فى القرن الماضى ، لكن فى مطلع القرن الواحد والعشرين قد اتخذت الدراما صبغةً جديدة عليها، وهى صبغة تأريخ مالا وجود له ، والإعتماد على التوقع فى الدراما مما كان من سير أحداث التاريخ، وهو الأمر الذى غير من شاكلة التاريخ على الرغم من أن البداية والنهاية كما ذكرتها كتب التاريخ صحيحة، أما فى باطن الأحداث تحدث أشياء لم يثبتها التاريخ فى طياته لكن من خيال المؤلفين حتى أصبح التاريخ رواية تحكى على حدث وقع بالفعل ، لكن دائماً تكون أحداث الرواية مشكوكاً فيها ، ولهذا سنستعرض أشهر المسلسلات والأعمال السينمائية التى أخذت الصبغة التاريخية وباتت المؤثر الرئيسي فى ترسيخ التاريخ لدى جيل هذا القرن دون الرجوع إلى المصادر الرئيسية.
1- المسلسل التركى " القرن العظيم " أو حريم السلطان 2011 :-
يحكى المسلسل قصة حياة السلطان سليمان القانونى العثمانى وقد كان منافياً لأحداث كثيرة فى حياة السلطان الذى أرعب القارة الأوربية بأكملها وملك مملكة كبيرة، فقد اصطبغ المسلسل بالصبغة الغربية فباتت المراجع العربية لا وجود لها في أحداث المسلسل، واعتمد صانعوا العمل على مؤرخى الغرب وبعض من مؤرخي الأناضول، وبات ذلك مؤثرا سلبيا لدى المشاهد على حياة سليمان المليئة بالترف واللهو واقتطاع الجزء الأكبر من مشاهد المسلسل على الحرم ومن في القصر من كثرة الجوارى وهو الأمر الذى لم تذكره كتب التاريخ كثيراً.
يعتبر هذا المسلسل مثالاً كبيراً للجدل ، فقد تمت مهاجمته عدة مرات وأوعظ البعض على عدم أخذه مرجعاً تاريخياً على الرغم من انتاج فيلم فاتح الشهير الذى يحكى فتح القسطنطينية من قبل محمد الثانى جد سليمان الأكبر ، والذى أجمع جميع الأتراك والعرب على أنه مرجعاً تاريخياً لا يشوبه شىء ، على أن الأحداث قد أظهرت اخطاء تاريخية فى وسط الأحداث وأشخاص لا وجود لها لتمثيل بطولات فى فتح المدينة البيزنطية.
ومن هنا بات الإختلاف الواضح بين عارضي الدراما ، فقد عرضت ميرال أوكاى كاتبة مسلسل القرن العظيم ما يجول بخاطرها بجانب التاريخ الكبير لهذا السلطان بالتركيز على صراع الحريم فى الحرملك السلطانى.
2- قيامة أرطغرل 2014 :-
فى هذا المسلسل الذى تم عرضة فى عام 2014 وحقق نسبة مشاهدة عالية جدا ، والغريب أنه نال على استحسان قطاع كبير من العرب والغرب لما يحمل من أحداث درامية لم يسمع عنها أى أحد فى التاريخ التركى عدا نيفاً قليلاً من الصفحات فى التاريخ السلجوقى أو تاريخ نامة الخاص بالجنس التركى .
إلا أنه بزوغ نجم المؤلف الشاب محمد بوذداغ جعل الصبغة فى الدراما التركية فيما يخص التاريخ تأخذ مساراً جديداً، وهو الاعتماد على الخيال بجانب أحداث حقيقية مرت مرور الكرام فى التاريخ ولم تستهوي كثير من المؤرخين، فها هو أرطغرل بن سليمان شاه العظيم الذى دخل جميع البيوت العربية وأصبح مثالاً وتاريخاً لا ينسى على الرغم بما فيه من تأليف شخص واحد.
فى التاريخ ذكر هذا القائد ذو نسب تركى ولم يذكر أنه رئيس قبيلة القاي كما ذكر فى المسلسل غير أن التاريخ المثبت له فى عصر علاء الدين قيقباد سلطان سلاجقة الروم لا يذكر حروبه المستقلة وصراعه مع بايجو نويان ذو التاريخ الصاخب فى تاريخ المغول وتقدمهم، وهو الأمر الذى جعل كثير من العقول تصديق الأمر، والغريب أن المعلومات عن هذا القائد باتت تؤخذ من هذا المسلسل دون الرجوع إلى المؤرخيين الأوليين.
3- ممالك النار " انتاج عربى 2019" :-
هذا المسلسل العربى الضخم والذى انتج خصيصاً لمحاكاة الدراما التركية فيما تقدمه، معتمداً على دمج ما بين الأفكار التركية والفكر العربى، وهو الأمر الذى آثار الجدل حول المسلسل الميل الواضح إلى المماليك على حساب الأتراك، لكن الحقيقة تاريخ المماليك بمصر وما ربطهم بالشعب المصرى جعل التعاطف معهم حتى ولو بعد خمسمائة عام، فقد ذكر جميع المؤرخين أن المعتدى على الدولة المملوكية هم العثمانيون، وقد بادئوهم العداء وأن الصراع كان على السلطة والأرض، لكن المسلسل قد ذهب بعيداً فى تحقير صفات السلطان العثمانى وهو ما ذهب به عن الحقيقة غير ذلك الجماعة التى مثلها المسلسل دون الإشارة إلى الصراع العثمانى الصفوى آنذاك.
الجانب القديم لم يفارق هذا المسلسل إلا أنه لم يذكر أنه مأخوذ من أي رواية فى التاريخ فقد كان بن زنبل الرمال قد وصفها وبن اياس وهم من معاصري هذه الملحمة الكبيرة بين الفريقين.
4- السلاجقة العظام 2019 :-
فى هذا المسلسل الضخم قد بدأ الإنتاج التركى يتجه إلى ناحية السلاجقة أصحاب الفضل فى وجود الدولة العثمانية والدول التركية الآن، إلا أنه قد شرد بعيداً فى حكايات القرامطة والحشاشين التى سردها المسلسل بشكل قوى على أن حسن الصباح حسب التاريخ لم يكن متواجدا فى وقت ملك شاه فى اصفهان ولا مقرباً منه كما ذكر المؤلف ، ناهيك عن رواية ولادة الأخوة المتحاربين بعد أبيهم أحمد وسنجر وبركيارق، فى حين أن الجزء الخاص بألب أرسلان أشهر قادة هذة الدولة كان يشيبه كثيراً من الأحداث الغير حقيقية كحكاية فاسبورغان وما فيها بالجزء الأول فقد كانت من خيال المؤلف الدرامى.
فى حين أن المؤلف والقائم على العمل قد أخذ الجزء الثانى إلى الخلف، وذلك انتهازا لنجاح فيلم ملازكرد فى السينما التركية والذى يحكى عن صراع الب ارسلان وأرمانوس ديوجينيس ، وهو الأمر الذى بات واضحا بجعل الشخصيتين فى الجزء الثانى ليحقق شهرة بذلك ونجاح منقطع النظير للمسلسل دون النظر الى التصحيح التاريخى الذى لا يذكر مثل هذة الواقعة.
5- المؤسس عثمان 2019 :-
يعتبر هذا المسلسل مكملاً لقيامة أرطغرل حيث اعتمد على النجاح الساحق لما كان قبله، غير أن المسلسل قد آثر فعليا على الشعوب العربية والتركية والغربية وبات من أشهر المسلسلات، وأصبح وثيقة تاريخية لحياة عثمان، حيث أن هذا المسلسل قد تمت معالجته تاريخيا جيداً عن الآخر، على الرغم من بعض الأخطاء التاريخية فيه بما يخص آيا نيكولا وعشائر القبائل وتواريخ التأسيس وسلاطين السلاجقة ، إلا أنه كان قريبا جدا من ذويه لكتب التاريخ .
غير أنه يعيب على المسلسل عدم ذكر بعض الأحداث التى تمت فى هذا الوقت فى الإمبراطورية البيزنطية وربطه لرواية القائد المغولى جغيهاتو الذى لم يكن بهذا الإحتكاك الدائم مع عثمان، فى حين أن رواية كوسة ميخائيل كانت بعيدة تماما عن صحتها على الرغم من تقاربه لعثمان وربطه بتورغود فاتح ايناغول جعل الأمر مخلوطاً فى المواسم الأخيرة.
6- الملحمة 2021 :-
فى هذا المسلسل قد ذهب محمد بوذداغ بعيدا فى خياله التاريخى وقد جعل المسلسل كافةً بأشخاصه من تأليفه الخاص، من كبيرهم حتى صغيرهم بما فيها الرواية الخاصة بالأمير الكسيح التى تناولتها معظم الأساطير فى التاريخ كما تم بحدوثها قبلاً فى تاريخ الفايكنج ، وما قدمه من دور لبطلة العمل، الذى أنهاه أنها هى التى حكمت وهذا لم يحدث فى قبائل الغوك ترك التى كان من المفترض أن الحكاية تخصهم ، فهم قبائل ساسانية تركية ظهرت مابين القرن السادس والسابع الميلادى أى انها لم تعاصر الإسلام كما ذكر فى المسلسل، فقد كان الإسلام وقتها فى طوره الأول ولم يتوسع بداخل هذه البلاد بعد.
يعتبر هذا المسلسل مسلسلاً غربيا يعتمد على خيال المؤلف فى إحداث شىء فى تاريخ ما، وهو الأمر الذى يسمى فى تاريخ العرب والفرس بالسيرة كمثال السيرة الهلالية وعلى الزئبق وما كان فى كتاب ألف ليلة وليلة وهو المنتسب إلى الفارسيين فبات المسلسل من هذا النوع الذى لا يؤخذ به كمستند تاريخى .
نجد أن الفكر الغربى الذى جعل من التاريخ اسطورة كمسلسلات صراع العروش واسبرطة وحياة الباباوات التى اعتمدت على الأساطير والحكايات الخارقة للطبيعة، على الرغم من اعتراف الغرب بأن الأحداث ليست حقيقية وانما من خيال المؤلف، إلا أن الإتجاه فى البلدان العربية والإسلامية إتجهت إلى التاريخ المؤلف فى الدراما على أنه حقيقة مطلقة دون الرجوع إلى المصادر أو الكتب الدالة على مثل هذه الأحداث.
تعليقات
إرسال تعليق