الجوانب الإصلاحية فى فكر الإمام محمد عبده

 

الإمام الشيخ محمد عبده، هو أحد أبرز المجددين فى الفكر الإسلامى، والخطاب الدينى فى العصر الحديث، وأحد دعاة الإصلاح، وأعلام النهضة العربية الإسلامية الحديثة، ساهم بعلمه ووعيه واجتهاده فى تحرير العقل العربى من الجمود الذى أصابه لعدة قرون.

رغم مرور ما يزيد على القرن على وفاته ولكن أفكاره ما زالت حية وباقية، وإن كنا طوال هذه الفترة نشهد الصراع العنيف بين الإصلاح الذى كان ينشده الإمام محمد عبده، وكان من رواد الدعوة إليه، وبين التيارات المحافظة المتشددة التى تقاوم الإصلاح والتجديد بكل عنف وشراسة ورفض.


الإمام الشيخ محمد عبده كان أكبر المجددين والمصلحين الإسلاميين فى مصر والعالم العربى، خلال الربع الأخير من القرن التاسع عشر وحتى وفاته، فكان بالضرورة أن تتصدى له وبعنف الجماعات الدينية المتشددة، وأن يتهموه اتهامات عديدة، منها ما طال إيمانه وسلوكه وممارساته الشعائرية ، التى هى فى النهاية مسلك يخص صاحبه ولا شأن لأحد به إلا خالقه.

الإمام محمد عبده فى شبابه 

فتاوى الإمام مسار جدلاً إلي يومنا هذا:- 

أتي محمد عبده على رأس المجددين للفكر الديني والتحديث وكأول رائد للإصلاح في مصر. كانت دعوته الرئيسية بعد عودته من المنفى لمدة ست سنوات، بسبب اشتراكه في الثورة العرابية، هي الإصلاح، إصلاح الأزهر ونظام التدريس فيه، إصلاح المحاكم الشرعية، الإفتاء، والأوقاف الإسلامية، وإنشاء مدرسة للقضاء الشرعي، وكل واحدة من هذه الأمور تحتاج إلى  تفصيل. لكن سوف نقتصر في الحديث هنا عن بعض أوجه الإصلاح له في الفتوى.


الإمام محمد عبده 

  لم يكن محمد عبده يفصل بين قضايا الفقه وقضايا المجتمع بل إنه اجتهد في الفقه للإجابة عن أسئلة الواقع والحياة من حوله، وقد شغل منصب المفتي، وصدر مرسوم بذلك من الخديوي عباس حلمي الثاني في 3 يونيو 1899م، وكان الإفتاء قبل هذا يقوم به من يتولى مشيخة الأزهر، ولذا يعتبر محمد عبده هو أول مفتٍ مستقلٍ في مصر.

ظهرت جرأة محمد عبده في التجديد في الفكر الديني بشكل ملحوظ، فكان من أوائل ما نادوا بتحرير الفكر من التقليد وفهم الدين علي نهج سلف الأمة، وأشاد بالعقل ونظر إليه على أنه أفضل القوى الإنسانية وأفضل ما خلق الله.

واجه في تجديد للفكر الديني تيارين كان لهما نصيب الأسد في استقطاب عقول الإمة الإسلامية ولا سيما المثقفين منها وهما تيار الجمود في إطار الظلام الفكري، وتيار التغريب القائم علي العلمانيه وضرورة الأخذ بالحضارة الغربية، والنظر إلى الدين الإسلامي علي أنه لا يواكب العصر، فهدف في تجديده إلى الربط بين الإسلام والمعاصره، وتوضيح التواؤم بين الإسلام ومتطلبات العصر واستخدم الشيخ محمد عبده مقاييس عقلانيه لإحداث مظاهر التجديد في جوانب الفكر الإسلامي فسعى لتقديم صورة للإسلام الصحيح الذي يواكب العصر، وصب جم تركيزه على الفهم والإدراك للدين لا مجرد التفقه فيه.

من ثم تلخصت دعوة الإصلاح الديني لديه في ثلاثة أمور وهي دعوته إلى تحرير الفكر من قيد التقليد وعدم خضوع العقل إلا لسلطان البرهان بحيث لا يتحكم فيه أحد، تلازم الدين والعلم وترابطهم وعدم الصدام بينهم لأن الهدف الرئيس هو تقدم الإنسان بتقديم العون له والدين والعلم كل منهم يؤدي دوره فلا غنى لهذا عن ذاك، العودة إلى سماحة وبساطة الإسلام الأولى بحيث أن تغترف من المنبع وبذلك نذيب الخلاف الذي وقع بظهور الفرق المختلفة.

محمد عبده والأزهر 

أخذ على الشيخ محمد عبده وعيب عليه أنه أبطل ميضأة الأزهر واستبدلها بالحنفيات، وأن إلف الناس للقديم جعهلم يحزنون لفراق الميضأة.

ومن هذه الحكاية يمكن أن نعرف كيف كان يفكر محمد عبده، وكيف كان يفكر كثير من هؤلاء المشايخ في أشد أوقات إظلام وتراجع الأزهر، هذا الانفتاح من الشيخ محمد عبده وإدراك الواقع واختلاف الزمان، وتقديم مصالح الناس وحفظ حياتهم وصحتهم ومعاشهم بما يتفق مع المقاصد الكلية وشروط الاجتهاد، والإيمان الراسخ بأن بقاء الدين هو قرين بفهم واستيعاب التطور والتجدد في الحياة والتفاعل معها وبالموازنة بين الواقع وبين مقاصد الشريعة.

تلك هي أبرز الملامح العامة لمنهج الشيخ محمد عبده بشخصيته الناضجة وثقافته الواسعة واعتداده بالعقل، سواء في الفتوى أو في غيرها،وقد اشتهر المفتي محمد عبده بروعة وسماحة فتاويه، حتى أن الناس كانوا يسألوه في أمور الحياة كما كانوا يسألوه في أمور الدين. بل كانت تأتيه استفتاءات من المسيحيين واليهود، فقد سئل في امرأة مسيحية تملك عقارات، وأفتى للأم المسيحية حضانة أولادها من زوجها الذي اعتنق الإسلام.

الإمام محمد عبدة مع تلاميذه 

كانت أول فتوى أصدرها الإمام محمد عبده في 11 يونيو سنة 1899، أي بعد توليه المنصب بأسبوع، وفيها يجيب محكمة الاستئناف الأهلية بمصر التي أحالت إليه أوراق متهم بالقتل لأخذ الرأي الشرعي فيه، فأجاب الإمام محمد عبده بما كان ملخصه في هذه القضية بأن : كثرة القرائن لا تكفي بالحكم بالإعدام، لأن اليقين لا يبلغ بها إلى الحد الذي يسوغ الحكم بعقوبة لا يمكن تدارك الخطأ فيها لو ظهر بعد ذلك.

وفي قضية زواج المسلم من الكتابية (مسيحية أو موسوية) فإن الفقهاء المسلمين قد اختلفوا في ضرورة إسلام الشهود من عدمه، والغالب منهم يرى بعدم صحته وحجتهم أن الشهادة هي على العقد، وهو يتعلق بطرفيه معا وهذا لا يجوز لأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم. لكن الشيخ محمد عبده في هذه المسألة يخالف هذا الرأي، وأخذ بعدم اشتراط إسلام الشاهدين، فقال : ولو ذميين، وأخذ برأي أبو حنيفة وأبو يوسف وهما لا يشترطان إسلام الشهود بل يصح الزواج عندهما إذا كانت الزوجة غير مسلمة بحضور وشهادة غير المسلمين والمحاكم في مصر تأخذ بهذا الرأي.

الإمام ابو حنيفة   

 وكان تجديده في تفسير القرآن أنه حاول أن يقف على المعاني العامة دون الوقوف أمام الألفاظ في ذاتها وإعطاءها أكثر مما تستحق من النظر، وكان ينزع نزعة عقلانية واضحة في محاولته للتفسير والتأويل للقرآن، ويرفض الكثير من الحكايات والقصص التي كان يتخليها المفسرون قديما. 

و رداً منه على سؤال ورد إليه بخصوص قصة طوفان نوح، يقول ” بأن الطوفان لم يكن عاماً لأنحاء الأرض بل هو خاص بالأرض التي كان بها قوم نوح.

 وقد أجاب الإمام محمد عبده “أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع علي عموم الطوفان ولا علي عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث علي فرض صحة سنده فهو أحاد ولا يوجب اليقين، والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين، أما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي، وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها، ولا تتخذ دليلا قطعيا علي معتقد ديني، أما مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض.

نهاية القول :- 

تعددت اهتمامات الإمام محمد عبده في باب الإصلاح ولم تقتصر على هذه الأمور التي ذكرتها فقط، بل أسهم وقدم أفكاره الإصلاحية في مجالات مختلفة باعتبار الإصلاح لديه كان عملية شاملة ومتكاملة. وله جهد في تجديد الفكر الإسلامي في مجالات عدة ومنها تفسير القرآن ومباحث علم الكلام والفقه. وله جهد في مناقشة العديد من المشاكل الاجتماعية والفكرية في وقته، وفي قضايا التربية والتعليم والقضاء. وقد وضع-على سبيل المثال- أثناء نفيه ببيروت رسالتين في الإصلاح: الأولى: كانت في بيان الإصلاح اللازم للدولة العثمانية التركية، والرسالة الأخرى: كانت في إصلاح ولاية الشام. راجع لتفاصيل أكثر: عبد المتعال الصعيدي، المجددون في الإسلام.



يتفق الدارسون والمتخصصون فى فكر الإمام محمد عبده على وصف خطابه بالإصلاحى التجديد الشامل، وعلى قدرته العالية على محاورة الآخر، ولو من باب السجال، من جهة أخرى، خطاب حضارى إنسانى يسعى لتأكيد قيم الحرية، والمساواة، والعدل، ويريد استنهاض الشعوب لاسترداد مجدها والسيطرة على مصيرها.

وخلاصة الأمر أن الأمام قد بين أهمية الوعي بمسار التطور التاريخي، والتركيز علي دور العقل في مجال فهم الاسلام فهما صحيحا ومن ثم نادي بضروره العوده إلى منبعه واستخدام العقل الذي يتمتع به الإنسان في فهم الاسلام. 

تعليقات

المشاركات الشائعة من هذه المدونة

Report about Depression

العالم على شفى الهاوية ( الحرب العالمية الأولى 1914 - 1918 )