الدولة العلوية بمصر"الجني والخائن"
لعل اكثر ما يأتى فى أذهان القارىء حينما أذكر الدولة العلوية يكون الرد سريعاً أن محمد على وأسرته هم أصحاب هذه الدولة، لكن قد قامت الدولة العلوية قبل أن يأتى محمد على إلى مصر بل حتى قبل أن تأتى الحملة الفرنسية إلى مصر بما يقرب من ثلاثين عاما.
مصر العثمانية بين يد المماليك :-
بعد غزو العثمانيون لمصر وتحويلها إلى ولاية عثمانية بعهد السلطان سليم الأول، تم القضاء على السلطنة المملوكية لكن لم يستطيع الأتراك نزع الحكم الفعلي للمماليك فجعلوهم ولاة وأمراء على البلاد، ففي عهد سليمان القانون جعل مصر ولاية منظمة في الحكم حيث يكون بها الباشا والي البلاد الذى يتم إرساله من الباب العالى إلى المحروسة ومعه حاميته من الإنكشاريين، منذ عام 1517 م إلى القرن الثامن عشر وبالتحديد الفترة ما بين بداية القرن حتى دخول الفرنسيين إلى مصر بنهايته كانت البلاد بيد المماليك تتناقل السلطة بينهم على منصب شيخ البلد، وهو المنصب الثانى بعد الوالي ومن بعده أمير الخراج والحج .
كان شيخ البلد المنصب الدائم النظر عليه، وكان يعطى لأكبر الأمراء المماليك عمراً ومالاً وعتاداً، وحينما تقاسم إبراهيم كتخدا ورضوان بك هذا المنصب فى عام 1748 كان هناك مملوكاً جريئاً ذا صيت ذائع قد قاتل العربان بمفرده وأطلق عليه جني على أو على بك الكبير فيما بعد وهو مؤسس الدولة المصرية العلوية.
جني على وكرسي الولاية:-
ولد على بك الكبير فى أماسيا على الحدود الروسية وقد قيل أنه إبن من أبناء القساوسة وبيع فى سوق العبيد كمملوك لإبراهيم كتخدا وأصبح بعد ذلك دفتردار بمماليك شيخ البلد، حتى عرض عليه المنصب من الشعب والأزهر والمماليك فرفضه وقال أنه لا يأخذه إلا بحد سيفه، من حب إبراهيم بك له زوجه من إبنته وتم بالمحروسة كبرى الليالى والأفرح حتى أطلق عليه العامة علي بك الكبير.
فى عام 1763 استطاع على بك الكبير بمناصرة من شيوخ الأزهر ومحاسيبه من الشعب أن يصل إلى منصب شيخ البلاد ، لكن استطاع رضوان بك أن ينزله عن المنصب ويجعله يفر خارج البلاد مع مملوكه محمد الخازندار أو محمد ابوالذهب كما أطلق عليه.
هرب على بك إلى القدس ومنها إلى صديقه ظاهر العمر بدمشق واستطاع أن يستجمع قواه ويتحد مع صالح بك حاكم جرجا وشيخ العرب همام بن يوسف كبير الهوارة ويلحق الهزيمة بكشكش بك قائد العسكر وخليل بك شيخ البلد.
دخل على بك الكبير إلى القاهرة فى أكتوبر 1767 م وأصبح شيخا للبلد من جديد.
على بك الكبير يفرض سيطرته على البلاد:-
صورة لقتال المماليك للعربان البدو
استطاع على بك الكبير القضاء على كافة خصومة بالقتل أو بالنفى خارج البلاد، ولم يبقى أمامه إلا صالح بك حاكم جرجا فاجتمع به ودبر له مكيدة تمكن من خلالها محمد بك أبوالذهب وباقى الأمراء من قتل صالح بك، وبهذا انفرد على بك الكبير بمشيخة البلد ، وبعد ذلك تفرغ لمقاتلة العربان فى الوجه البحرى بقيادة سويلم بن حبيب وتمكن منهم من خلال الأمير اسماعيل بك الذى أتى برأس سويلم إلى على بك الكبير.
بعد ذلك تقلد ولاية البلاد بعد إنزال الوالى أحمد باشا الأورفلى عن الولاية وأصبح قائم مقام البلاد، وأرسل إلى السلطان العثمانى رسالة من كتابة الشيخ الجبرتى ومشايخ الأزهر وأرسل إليه العطايا والهدايا ليعطيه الولاية على البلاد منوهاً للسلطان خطر عثمان بك العظم وأولاده فى البلاد الشامية، فقبل السلطان وأعطاه ما أراد لانشغال الدولة العثمانية وقتها فى الحرب الروسية.
ثم تفرغ على بك لأخر مقاومة فى الصعيد التى تمثلت فى كبير هوارة همام بن يوسف فذهب إليه محمد أبو الذهب وعقد صلحاً معه لم يرضى به على بك الكبير لإيواءه للهاربين من مماليك صالح بك ومماليك القاسمية وأصبحت الحرب بينهم لا راجع عنها.
تقابل الفريقين وكانت الغلبة لهمام ورجاله لولا خيانة ابن عمه اسماعيل الهوارى الذى اتفق مع أبوالذهب على سيدة وهزمت قوات الهواره أمام جيش المماليك، وهرب همام إلى فرشوط ليموت مكموداً مقهوراً على ضياع ملكه وملك عائلته، وبهذا أضحت السلطنة ملك يمين جني علي وأصبح مالك البلاد.
فى عام 1770 وقع صدام بين شريفي مكه أحمد وعبدالله بعد موت الشريف مساعد ليتغلب أحمد على عبدالله ويهرب الأخير إلى الجانب الروسي الذى كان على وفاق مع على بك الكبير أنذاك لينزل ضيفا فى القاهرة، وتُعد العُدة لعودة ملكه فى الحجاز، فأخرج على بك الكبير تجريدة على رأسها محمد بك أبوالذهب إلى الحجاز واستطاعوا التغلب على أبناء دحلان فى طريقهم ومن بعدهم هزموا الشريف أحمد وجعلوه يفر هارباً.
ثم إتجه على بك بأنظاره إلى البلاد الشامية فأرسل تجريدة كان الغرض منها تأديب العرب فى الشام وغزة وبدأت الحرب على العظم حينما انضم إلى التجريدة حليفه ظاهر العمر حاكم حمص، واستطاعوا فتح يافا وغزة ومعظم البلاد الشامية حتى وصلوا إلى دمشق.
على بك يعلن استقلاله عن الدولة العالية و خيانة تلميذه له:-
بعد فتح يافا أعلن على بك الكبير الحرب على الدولة العثمانية واستقلاله التام بالبلاد وأخذ يسك العملات ويخطب له على المنابر سلطان مصر وخاقان البحرين وخادم الحرمين، ومنع تأدية الخراج والجزية إلى الباب العالى ، وأبرم الإتفاقيات التجارية والحربية مع البندقية وروسيا وتراسل مع الملكة كاترين قيصرة روسيا أنذاك.
وأرسل إلى أبوالذهب ليفتح ما يشاء من مدن يلاقيها فى طريقة حتى يصل إلى اسطنبول، لكن كانت المفاجأة من نصيب على بك الكبير فقد تقاعص ابوالذهب عن التقدم إلى الأمام وجمع رجالة ورجع منسحباً إلى القاهرة معلنا أنه سأم وضجر من القتال، ولكن من الواضح أن أبوالذهب قد طمع فى ملك سيده الذى جعل من مصر مصدراً للرخاء والأمن والرفاهية التى لم يروها المصريين منذ دخول سليم الأول إلى مصر.
صورة تقريبية لمحمد بك أبوالذهب
أمر على بك بإغلاق مداخل القاهرة فى وجه تلميذه ومملوكة الهارب من الميدان، لكن تمكن محمد بك من الهرب إلى الصعيد والإحتماء بها بمماليك صالح بك ومماليك القاسمية الهاربين وأمراء جيشه ليبدأ العصيان على علي بك حاكم البلاد.
أخرج على بك تجريدة علوية بقيادة اسماعيل بك لملاقاة أبو الذهب، ثم مالبث أن انضم اسماعيل بك إلى أبوالذهب واتجهوا صوب على بك لملاقاته وهزموه وأرغموه على الرجوع إلى القلعة، ومنها فر هاربا إلى خارج البلاد ربيع عام 1772م.
بعد فرار على بك الكبير إلى الشام جلس الناس يتمنون رجوعه إلى البلاد فقد عرفت البلاد فى عهده رخاء لم تراه من قبل، وحظى العلماء والمشايخ بحرية الرأى والتعبير وأضحى لمصر شخصيتها القديمة فى عهده، وقد مرض على بك الكبير وهو بضيافة ظاهر العمر وبعد ما أتم شفائه حارب العظم مع ظاهر العمر بمساعدة الروس وانتصروا عليه، ثم اتجه للإنتقام من ابوالذهب ومن معه بمصر.
التقى الفريقين بالصالحية وكانت الهزيمة من نصيب على بك الكبير وأصيب إصابة بالغة فى المعركة، وحملوه إلى ابوالذهب فقبل يده وأبدى ندمه وحمله إلى خيمته ومنها إلى قصر الأزبكية، حتى توفى ودفن بجوار قصره صيف 1773م.
أبوالذهب يكشف وجهه الحقيقي "مذبحة يافا 1775 م":-
بعد شهر من موت على بك وصل الوالى العثمانى إلى مصر ، لكن تم الحجر عليه فى قصره وتصبح مقاليد الحكم فى يد محمد بك، وحينما استتب له الأمر راسل السلطان مصطفى الثالث العثمانى أن يعطيه الولاية مقابل تأديبه للعصابات الشامية والمتمردين فى الشام الذى يتزعمهم ظاهر العمر.
استطاع أبوالذهب أن يقتحم الأراضى الشامية بجيشه حتى وصل إلى يافا وحاصرها حصاراً شديداً وقذفها بالمدافع، وقاوم أهلها الحصار مقاومة شديدة وعنيدة وباتوا يسبون المصريين من أعلى الأسوار، حتى دخلها أبوالذهب عنوة من خلال ثقبه للأسوار، وبعد أن استسلم معظم أهلها أمر بقتل الجميع من رجال ونساء وصبيان وأطفال وكانت مذبحة كبيرة لا مثيل لها قبلاً ولا بعداً.
حينما سمع ظاهر العمر عما حدث هرب من عكا التى فتحها أبوالذهب بكل سهولة، وأرسل محمد بك إلى السلطان العثمانى طالباً الولاية على الأراضى الشامية والحجاز، فوافق السلطان على مطلبه وأرسل إليه فرمان التعيين وخلعة العرش، وقد فرح محمد بك فرحاً كبيراً وأسرف فى الإحتفال حتى واتته حمة شديدة فى بدنه ومات على أثرها فجأةً.
انتهى استقلال مصر لتعود كما كانت عليه من ولاية عثمانية وتنافس الأمراء على مشيخة البلاد حتى مجىء محمد على باشا بعد ثلاثة عقود من الزمان، فيعتبر هذا أول استقلال حقيقى عن الدولة العثمانية بمصر وسائر البلاد العربية، وقد تناقل المصريين يوم موت أبوالذهب الأية الكريمة بسورة الأنعام : فقال تعالى " حتى إذا فرحوا بما أوتوا أخذناهم بغتة فإذا هم مبلسون " صدق الله العظيم .
كتبها
حمادة الشاعر
تعليقات
إرسال تعليق